في مثل هذا اليوم قبل 18 عاما، أي صباح يوم عيد الأضحى الذي صادف نهاية العام 2006 ميلادي، اختلط على مسلمي العالم مشهد الأضاحي التي قاموا بذبحها تعبدا وتقربا إلى الله، بمشهد لفّ حبل قاتل حول عنق رئيس دولة العراق، الراحل صدام حسين، وشنقه أمام عدسات الكاميرات، بينما في الخلفية عبارات مهينة تلفّظ بها أحد منفذي الإعدام.
كان ذلك يوم السبت، 30 دجنبر 2006، أحد أيام أعياد الميلاد المسيحية، الموافق للعاشر من ذي الحجة من سنة 1427 هجرية، العيد الأكبر للمسلمين.
دقائق قليلة بعد صلاة الفجر، وبينما راح العراقيون السنة يتفقدون سكاكينهم استعدادًا لنحر كبش العيد، كان جنود المارينز وعملاء ال”سي أي إي” يتفقدون الحبل الذي سيلتف حول عنق «الديكتاتور»، ويتأكدون من عتمة الأقنعة التي سيرتديها آخر خدمه المكلفين بإلباسه آخر ربطات العنق التي عرفها في حياته.
كالطفل المدلل الذي لا يقوى على حضور لحظة نحر كبش العائلة، آوى الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الابن، إلى سريره متدثرًا بغطائه الدافئ، وهو يعانق دمية السوبرمان.
من هناك، في حضن فراشه الحريري، أصدر أمرًا دأب على توجيهه في مملكته، ولاية «تكساس». قال لهم: اشنقوه وخلصوني من كابوسه، لكن لا تنسوا تسجيل ذلك المشهد الهوليودي الرائع، علّنا نفوز بإحدى جوائز الأوسكار ونسترجع مقاعد الكونغرس ونحفظ عرش آل بوش.
«فلسطين عربية وأشهد أن لا إله إلا الله» رد صدام، وارتمى يعانق المشنقة.
“لا نخاف من الموت…”
في تسعينيات القرن الماضي، في أوج الصراع وعند مفترق الطرق، كانت بغداد تتألم وتنهض من تحت الرماد. بينما كان العراق يتحدى جيوش التحالف الدولي في حرب الخليج الثانية، كانت حناجر الشعوب العربية تردد: «زطم زطم يا صدام حنا معك للأمام»، «بالروح بالدم نفديك يا صدام».
لكن، في مفارقة عجيبة، لم تكن دماء ملايين الأكباش التي نحرها المسلمون في عيدهم الأخير كافية لافتدائه من يد الأمريكيين، رغم أن كبشًا واحدًا كان كافيًا لافتداء النبي إسماعيل علبه السلام، من يد أب الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
لعل صدام لم يكن نبيًا، وربما لأن بوش لم يكن ليرضى بغيره قربانًا في محراب المحافظين الجدد.
في إحدى لحظات تأمله النادرة قيد حياته، قال صدام حسين: «مرت بي حالات في حياتي كنت أرى فيها الموت قريبًا كحالة مادية، أما كحالة أخرى فكنت أراه بعيدًا نتيجة ارتباطي بقضية… نحن نعرف بأننا جميعًا لابد أن نموت، إلا أنني لدي شعور بأن الإنسان بإمكانه أن يتخطى بعض الحفر عندما يرتبط بقضية مبدئية عالية الأهداف… والذي يهمني الآن هو ماذا يقال عنا بعد خمسمائة سنة وليس ماذا يقال عنا الآن وحسب… مرة قلت للرفاق في القيادة إن علينا ألا نسقط، فنحن لا نخاف من الموت وإنما نخاف مما هو بعد الموت لأننا قد نرى ونحن في ذمة الحياة الأخرى ما يجري على السطح».
ربما يكون للتوافق التاريخي بين لحظة ميلاد صدام حسين عبد المجيد التكريتي (1937)، وميلاد حزب البعث، دلالة أعمق من مجرد المصادفة.
كما لو أن المسرح تهيأ فجر يوم العيد ليختاره المخرج بطلًا للدور المميت، كان كاتب السيناريو يمهد للفتى التكريتي خشبة لعبه لأدواره القادمة.
لم يكن مولده بهيجًا؛ فقد انضاف مخاض أمه صبحة الطلفاح إلى حزن فراق زوج مات مخلّفا نطفة تنمو في أحشائها في عناد لم يستسلم لفكرة الإجهاض التي ظلت تراودها.
لم يُحط مهده بالورود والرياحين ولم يفتح فمه لتلقي ملاعق الذهب رغم انحداره من أسرة تعود جذورها إلى العائلة العلوية.
اصطياد الفريسة
كانت لحظة اعتقاله الأخير من طرف قوات الاحتلال الأمريكية قوية، بعدما أراد لها المخرج أن تكون كذلك.
رئيس دولة عربية، صاحب القصور والجواري وأشباه العبيد. قاهر الفرس ومفزع الصهاينة. يخرج بهدوئه المعتاد من حفرة سحيقة، طويل اللحية مبعثر الشعر متسخ الهندام.
ظل المخرج يسلط عدسته مستعملًا مؤثراته الخاصة: طبيب أغلب الظن أنه بيطري، يحمي يديه بقفازات وهو يفحص أنياب «الفريسة» وشعرها المتسخ.
فعلًا هو! ففحص الحمض النووي لا يدع مجالًا للشك، لقد وقع.
كانت اللحظة قوية لأن المخرج كان جاهزًا بفريقه لتصويرها. إلا أنها بالنسبة للممثل كانت عادية. إنها ليست المرة الأولى التي يلعب فيها هذا الدور.
في أحد أيام 1963 على عهد الرئيس العراقي عبد السلام عارف، جلس صدام حسين في زنزانة انفرادية على مقعد صغير، وقد قيدوا يديه من الخلف بسلسلة من الحديد وربطوا طرفها في قضبان النافذة العالية.
حين أقفلت عليه باب الزنزانة داخله شعور غريب ومبهم بأنه لن يموت. لم يدر بباله للحظة أنه سوف يموت.
فكرة الموت لم تسكن فؤاده للحظة واحدة. وحتى عندما يخطر بباله احتمال الحكم عليه بالإعدام، كان يقول في نفسه على الفور: إذا لم يعدموني بسرعة فإنني سأهرب.
ظل معلقًا بحبل المجهول، ومكث في السجن قرابة ثلاث سنوات دون محاكمة. لكن صاحب البيت الذي كانت تستأجره زوجته وابنة خاله «ساجدة»، أصدر حكمه دون تردد وألقى بأثاث البيت في الشارع بعد أن علم بأمر القبض على صدام لأسباب سياسية: عبد السلام عارف انقلب على البعثيين الذين كان يتحالف معهم في الحكم، وألقى بهم في زنازينه.
دكتاتور لا يرحم
لم تكن ساجدة تأتي وحدها لزيارته. بل كان «عدي» يأتي معها أيضًا. لم يكن عمره يتعدى بضعة شهور، ولكنه دون أن يدري كان يشارك والده نشاطه السياسي. ففي الخارج كان أحد رفاق والده يضع في صدر الرضيع رسالة إلى صدام، وعندما يحمل الأب طفله بين يديه ويحتضنه، كان يسحب الرسالة من ملابسه بسرعة ويضع مكانها رسالة أخرى.
في بداية عقد الخمسينيات، حدثت الثورة الناصرية وأصبحت رمزًا عربيًا يطغى على تفكير النخب السياسية، فما لبثت أن قامت ثورة عراقية مماثلة في انقلاب دامي أباد العائلة الملكية وحمل عبد الكريم قاسم إلى رئاسة الجمهورية العراقية أواخر العقد نفسه.
وذات يوم من صيف 1959، أتى إلى قرية «العوجة» حيث كان يعيش صدام رفقة عائلته، أحد رفاقه في الحزب ليبلغه رسالة مفادها: الحزب في بغداد يريدك.
بعد انفراد عبد الكريم قاسم بالحكم وميوله نحو الشيوعيين وتنكيله بالبعثيين القوميين، قرر رفاق صدام اغتيال قاسم. ورغم أن صدام امتلك أول مسدس وهو في سن العاشرة، زوده به بعض أبناء عمومته الذين مر بهم في طريق رحلته نحو تكريت طلبًا للعلم رغما عن أسرته الممانعة، ورغم تعوده على ركوب الخيل وحمل واستعمال السلاح باعتباره تعبيرًا عن الرجولة، كان لابد له من الخضوع لتدريب على استعمال الكلاشينكوف.
ورغم أن مهمته كانت تتلخص في تغطية رفاقه الذين سوف يطلقون النار على قاسم، فإنه عندما وجد نفسه فجأة أمام رئيس الجمهورية لم يتمالك نفسه، ونسي التعليمات، فأخذ يطلق النار على مرافقي الرئيس.
فشلت المحاولة، وأصيب صدام بعيار ناري في قدمه كما أصيب أحد رفاقه؛ لكنه لم يتردد في حمل السلاح على السائق الذي كان يقود سيارة المجموعة مانعًا إياه من أخذ رفيقه إلى المستشفى مخافة انكشاف أمرهم. كما لم يتردد في أول اجتماع دعا إليه قيادة حزب البعث سنة 1979، بعد أن أصبح رئيس الجمهورية، في القول إنه وجد جواسيس ومتآمرين ضمن الحزب، وقرأ أسماء هؤلاء الذين توقع معارضتهم له. وتم اقتيادهم بأمر منه واحدًا تلو الآخر ليواجهوا الإعدام رميًا بالرصاص خارج قاعة الاجتماع وعلى مسمع من الحاضرين.
أوهمته أمريكا أنه تدعمه ضد إيران
عرف صدام حسين، الرئيس العراقي المثير للجدل، كيف يلعب لعبة السياسة بمهارة، مثل لاعب الشطرنج الذي يحرك قطعها بذكاء على رقعة صغيرة، متدربًا على تحريكها في ساحات الحروب والمعارك.
منذ أن تمكن حزب البعث من السيطرة على الحكم في ثورة يوليو 1968 بقيادة أحمد حسن البكر، قريب صدام، كان هذا الأخير يشغل دور الرجل الثاني والنائب الصارم لرئيس ضعيف وكبير السن.
كاد البكر يتوصل إلى اتفاق وحدة مع سوريا يصبح بعده حافظ الأسد نائبًا للرئيس، ما يعني تغييب صدام، لذا وجد الأخير أن تحصين حكمه يتطلب إجراءات صارمة.
ما كاد صدام يعتلي رئاسة الجمهورية حتى زج بجيشه في حرب ضروس ضد إيران الثورة الخمينية. حرب امتدت أطوارها بين عامي 1980 و1988، بعد أن كان صدام يعتقد أنه قادر على إنهائها لصالحه في شهور، خاصة بعد استشعاره دعم واشنطن له، القلب النابض لـ”الإمبريالية” و”قوى الاستعمار الجديد”.
بالتوازي مع حربه هذه، كان صدام يعمد إلى تدمير القرى والمدن الكردية.
غلطة الشاطر.. في الكويت
في عام 1991، أخطأ تقدير الحسابات واعتقد أنه استحق الكويت هدية وثمنًا لحرب خاضها ضد إيران بالوكالة عن قوى الغرب وإمارات الخليج المهددة بطوفان الثورة الشيعية. وكانت حرب الخليج الثانية فشلاً ذريعا ذكّره بفشله الأول في اغتيال عبد الكريم قاسم.
قال صدام: «أنا في لحظة من حياتي حملت غدارتي وأطلقت نيرانها على عبد الكريم قاسم وضربته في شارع الرشيد. لم يكن عندي حقد عليه، أنا لم أحقد في حياتي على إنسان».
رغم ذلك، لم يكن أمامه حينها سوى الهروب من الموت، لتحط طائرة تحمله إلى عاصمة الجمهورية العربية المتحدة في مطار القاهرة الدولي في 21 فبراير 1960 بعد أن مكث ثلاثة شهور في الشام.
عاش صدام في مصر عبد الناصر ثلاث سنوات وبضعة أشهر، وجاب مصر كلها من شمالها إلى جنوبها، من الإسكندرية حتى الأقصر وأسوان.
كان حينذاك في بداية قدومه إليها في الثالثة والعشرين من عمره، شابًا طويلًا، نحيل الجسم وسيم الطلعة، جادًا في معظم أحواله إلى حد الصرامة، مهمومًا إلى درجة الحزن، خاصة عندما كان يعود إلى بيته المطل على النيل، فيجده قد فُتِّش ركنًا ركنًا، وأن أوراقه قد قرئت أو صُوِّرت.
كان الرجل زعيم البعثيين في مصر وشمال إفريقيا والسودان.
“علماني” نجا من الطائفية
قال الراحل معبرًا عن موقفه من السياسة والدين: «إن زج السلطة في إعطاء أحكامها على شؤون الحياة من مدخل ديني لابد أن يفضي إلى واحد من أمرين: إما عرقلة التطور في شؤون الحياة وتحويلها إلى جحيم لا يطاق… أو إفراغ الدين من قدسيته ومهابته وروحه وتحويله إلى غطاء لتبرير الكثير من مفردات الحياة، بما يسيء إلى الدين».
هذا الموقف جنّبه الوقوع في متاهات المذهبية والطائفية التي لم يكد نظامه يسقط حتى اندفعت إليها بلاد الرافدين وأثارت حيرة المحافظين الجدد.
رفع صدام شعار «نفط العرب للعرب» وجسده بتأميمه قطاع النفط سنة 1972، ومواصلته تأميم حصة أمريكا في شركة نفط البصرة يوم اندلاع حرب 1973، ودعوته إلى استعمال النفط كسلاح ضد واشنطن وحدها دون الدول الأوروبية خلال ذات الحرب.
لم تنس واشنطن وحلفائها مواقفه تلك، كما لم ينسوا قوله: «لقد خان السادات القضية العربية عندما أقدم على زيارة القدس وعندما وقّع مع الأمريكيين والصهاينة على اتفاقيات كامب ديفيد».
وكان الثمن الأول لذلك، مشاهدته على شاشة التلفزيون لجثتي ولديه عدي وقصي وقد تفحمتا بنيران القوات الأمريكية التي اجتاحت البلاد بداية من 2004، فقال حينها: بلّغ سلامي للشهيدين وقل فخري بكم في الناس كالخنساء.
بينما احتفظ المخرج لبناته رغدة ورنا وهالة، بدور مشاهدته وهو يلفظ أنفاسه على حبل المشنقة، مخلفًا للقادة العرب رسالة تقول:
ثوبي الذي طرزته لوداعكم نسجت على منواله الأثواب
إني شربت الكأس سماً ناقعاً لتدار عند شفاهكم أكواب